إذا أخذنا كتاب التوراة اليهودي وتصفحناه من موقف غير نقدي نستطيع تحديد حركات الشعب اليهودي في الشرق الأدنى (سورية ومصر) على ثلاث مراحل أساسية أو حركات هجرية.
أولها، هجرة إبراهيم الجدّ الأول للشعب اليهودي، من مدينة أور الكلدانية في أرض الرافدين واستقراره في أرض كنعان بفلسطين. وذلك في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
المرحلة الثانية تظهر بقيادة يعقوب حفيد إبراهيم من اسحق وهو الذي حسب الأسطورةتصارع مع الله طوال الليل وعنه تصدر الأسباط الاثني عشر. ومعه جدد الله وعده لإبراهيم بارض الميعاد.
أما المرحلة الثالثة في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، فتقوم بها جموع اليهود الفارين من مصر بقيادة موسى.
دخلت هذه الجموع الرعوية الجائعة أرض فلسطين من الجنوب بعد أن تاهوا في صحراء سيناء أربعين سنة، جزاء خوفهم من دخول الأرض أول مرة. لقد أرهبتهم أرض كنعان وأهلها الجبابرة بما رأوا فيها من منعة وثروة وحضارة، فعادوا إلى الصحراء.
لقد كان تقدم العبرانيين في أرض سورية الجنوبية بطيئاً جداً. إلّا أنهم، كما ذكر في التوراة، لم يكن تقدمهم بمثابة بطشهم فسياسة الإفناء التي اتبعوها لم يكن لها مثيل إلا أعمالهم الحالية في فلسطين فعلى سبيل المثال، عندما دخل يشوع إلى العي نقرأ بالتوراة وصف الحالة بما يلي: "رجع جميع اسرائيل إلى العي وضربوها بحد السيف. وكان جملة من قتل ذلك اليوم، رجل وامرأة، اثنا عشر ألفاً، جميع أهالي العي. وأحرق يشوع العي وجعلها تل ردم إلى الأبد خراباً". ولا بد من التنويه بأن الآمر الناهي والمخطط الرئيسي لهذه الأعمال الوحشية هو إله اليهود.
وبعد احتلال فلسطين يخبرنا الكتاب أنهم انقسموا إلى مملكتين: اسرائيل في الشمال ويهوذا في الجنوب. وكما يصف لنا الحالة فراس السواح "بقي العبرانيون عالة على الثقافات المجاورة. ففي أوج ازدهار دولتهم، أيام الملك سليمان، نجد هذا الملك يستعين بالحرفيين والصناع الكنعانيين لبناء هيكله المشهور ويستورد له المواد اللازمة من فينيقيا".
وما أن يقارب القرن السادس قبل الميلاد على نهايته حتى يدخل نبوخذ نصر البابلي العظيم مملكة اسرائيل ويحمل رجالها أسرى إلى بابل وبعد ذلك يأتي الفتح اليوناني ثمر الروماني ويتلاشى الكيان السياسي المزعوم لليهود. ويتبع ذلك تفكك وجودهم الاجتماعي والديني بانتشار المسيحية وتحول الشعوب السورية إليها.
- ما تبيّنه الأركيولوجيا:
"لم يوجدوا تاريخهم بل أن تاريخهم هو الذي أوجدهم"، هذا ما يقوله وِل ديورنت في موسوعته الشهيرة قصة الحضارة عن الشعب اليهودي. وإن قصص الآباء في سفر التكوين، رغم ترجيح وجود أساسي واقعي لها، ليست إلا نوعاً من الملحمة البطولية، مما تعودت الشعوب تدبيجة عن البدايات الأولى.
خيبت الأبحاث الأركيولوجية آمال الباحثين عن اسرائيل التوراتية، فالمنطقة بأثرها لم تظهر إلا استمرارية للثقافة المحلية الكنعانية. ولا وجود لأي دليل أثري على حلول أقوام جديدة في هذه المنطقة جلبت إليها تقاليد وثقافات مغايرة. يقول موسى مطلق إبراهيم في كتابه "وعد التوراة، من ابرام إلى هرتزل": "أيّاً كانت الحقيقة التاريخية بشأن التاريخ التوراتي ككل أو بشأن مملكة إسرائيل التوراتية […] فالحقيقة التي لا تقبل الجدل أن جميع الهجرات البدوية التي دخلت الهلال الخصيب في التاريخ القديم قد انصهرت في إنسانه، وانطبعت بطابعه الحضاري في جميع مجالات الحياة" ويضيف قائلاً: "إن الهجرة المسماة عبرانية قد انسحبت عليها هذه الحقيقة […] ولم يكن لها من الخصوصية ما يميزها في شيء، اللهم إلا تلك الردة الدينية- السياسية- الاجتماعية التي حصلت في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد تحت المآثي التي نزلت بمملكة أوشليم وشعبها".
أما في ما يختص بالفتوحات العسكرية فالمقاومة المسلحة التي واجهها الإسرائيليون من قبل ملوك شرق الأردن لا أساس لها من الصحة، لأن منطقة شرق الأردن كانت خالية من المراكز الحضرية بين القرن السابع عشر والقرن العاشر قبل الميلاد.
وفيما يتعلق بأريحا وقصة تدميرها على يد يشوع تظهر التنقيبات أن آثار الدمار الزلزالية في أريحا تعود إلى أزمنة سابقة بكثير للتاريخ المفترض لدخول الإسرائليين خلال الربع الأخير من القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
أمّا عن مملكة الإسرائليين الموحدة، فإن المسح الأركيولوجي للمناطق الهضبية التي كانت نواة هذه المنطقة، ينفي وجود قاعدة سكانية واقتصادية في هذه المناطق خلال القرن العاشر تسمح بقيام مثل هذه المملكة. فمملكة داوود وسليمان ليست مستبعدة تاريخياً فقط، بل أنها مستحيلة الوجود. وجميع نتائج التنقيب تظهر وبوضوح أن أورشليم لم تكن في القرن العاشر قبل الميلاد إلا بلدة صغيرة جداً. وخلاصة القول في أمر المملكة الموحدة هو أنها لم تكن سوى مملكة صغيرة لا تزيد ضخامة عن ممالك بلاد الشام القائمة في ذلك العصر.
بعد توضيح المسائل المتعلقة بالسياق التاريخي للشعب اليهودي بين التوراة والأركيولوجيا من حقنا أن نشك بصحة تلك النصوص التي لم تكن سوى صنيعة خيال شعب ضعيف أراد أن يتكبر على أوراق الكتب.
إن الديانة اليهويدية لم تنشأ وتتطور في فلسطين عبر الفترة المديدة الفاصلة بين مطلع الألف الثاني قبل الميلاد وأواخر الألف الأول قبل الميلاد، ولم يكن لهذه الديانة أية صلة بشعب معين اسمه شعب إسرائيل، لأن تاريخ هذا الشعب، كما ترسمه الرواية التوراتية، لا يعدو أن يكون فانتازيا لا تصلها صلة بالتاريخ الحقيقي للمنطقة. بل لقد نشأت هذه الديانة وتطورت واتخذت شكلها الحالي خلال القرون القليلة السابقة للميلاد. كما أكد البروفسور توماس طومسون استاذ علم الآثار في جامعة "ماركويت" في ميلواكي في الولايات المتحدة في كتابه "التاريخ القديم للإسرائليين": "إن مجموع التاريخ الغربي للإسرائليين يستند إلى قصص من "العهد القديم" من صنع الخيال" .
ب- أصول المتون التوراتية:
أن كل ترجمات التوراة إلى اللغات الحديثة ترجع إلى النص المسوري، الذي أكمل العلماء المسوريون تنقيطه في تاريخ لا يتجاوز القرن العاشر ميلادي.
إلى جانب النص التقليدي، لدينا ترجمات قديمة للتوراة بعضها يرجع إلى ما قبل الميلاد، اعتمدت نصوصاً مغايرة للنص التقليدي الذي تم تثبيته بعد ذلك، أهمها الترجمة اليونانية المعروفة بالسبعينية عندما أخذ المسيحيون يبادلون اليهود على أساس النص السبعين، أخذ اليهود بترجمة أخرى وهي Aquila حوالي منتصف القرن الثاني ميلادي والتي يبدو أنها اعتمدت نصاً أقرب إلى النص التقليدي منه إلى النص الأصلي للترجمة السبعينية.
بعد ذلك ظهرت ترجمة Symmachus ، التي تميزت بتعبير أرحب بالأسلوب اليوناني. وبعدها بنصف قرن ظهرت ترجمة Theodotion التي يبدو أن أصلها العبري أقرب إلى أصل Aquila والنص التقليدي منه إلى السبعينية.
بين هذه الترجمات المختلفة كان يبدو أن السبعينية وحدها تنتمي إلى تقليد يختلف عن التقليد الذي تنتمي إليه الترجمات الأخرى.
كما لدينا الوثائق المعروفة بمخطوطات البحر الميت المكتشفة عام 1948 في كهوف وادي قمران. وقد أرجع الباحثون أقدم نص بينها إلى نهاية القرن الثالث قبل الميلاد. وبعد أن أجرى العلماء بحوثهم تبين أنها تتبع النص التقليدي.
لقد أكدت لنا مخطوطات البحر الميت وجود أصول عبرية قديمة لنصوص توراتية متداولة إلى جانب النص التقليدي، مثل التوراة السامرية. ومن المؤكد أن تعدد التقاليد هذا، هو الذي حثّ مجمع "جمينا" على تثبيت النص التوراتي بشكل نهائي.
ولعل أهم ما قدمته مخطوطات البحر الميت التوراتية إلى "علم الكتاب"، هو تغيير موقف العلماء الحديثين من النص المسوري، لأنه لم يعد يمثل النص الوحيد الحقيقي في مقابل النصوص المشكوك بأمرها.
ت- نص اسطورة الخلق التوراتية:
سوف نعرض الآن نص التكوين كما هو مذكور في التوراة (العهد القديم):
الاصحاح الأول: في البدء خلق الرب السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف فوق وجه الماء. وقال الرب ليكون نور فكان النور. ورأى الرب النور أنه حسن، وفصل الرب بين النور والظلمة، ودعا الرب النور نهاراً والظلمة ليلاً، وكان مساء وكان صباح يوماً واحداً. وقال الرب ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلاً بين مياه ومياه. فعمل الرب الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان ذلك. ودعا الرب الجلد سماء. وكان مساء وكان صباح يوماً ثانياً. وقال الرب لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، وكان كذلك. ودعا الرب اليابسة أرضاً، ومجتمع المياه دعاه بحراً، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وقال الرب لتنبت الأرض عشباً وبقلاً يبزر بزراً وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه بزره فيه على الأرض، وكان كذلك فأخرجت الأرض بقلاً وعشباً وبقلاً يبزر بزراً كجنسه وشجراً يعمل ثمراً بزره فيه كجنسه، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً ثالثاً. وقال الرب لتكون أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون أنواراً في جلد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك. فعمل الرب النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم، جعلها الرب في جلد السماء لتنير على الأرض. ولتحكم على النهار والليل، ولتفصل بين النور والظلمة، ورأى الرب ذلك حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً رابعاً. وقال الرب لتفض المياه زحافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء. فخلق الرب التنانين والعظام وكل ذوات الأنفس الحية الذبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح ورأى الرب ذلك أنه حسن. وباركها الرب قائلاً أثمري وأكثري واملئي المياه في البحار، وليكثر الطير على الأرض. وكان مساء وكان صباح يوماً خامساً. وقال الرب لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها، ورأى الرب ذلك حسن. وقال الرب نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الرب الإنسان على صورته، على صورة الرب خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الرب وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأو الأرض واخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى كل حيوان يدب على الأرض. وقال الرب اني أعطيتكم كل بقل يبزر بزراً على وجه الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزراً. لكم يكون طعاماً. وكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية اعطيت عشباً أخضر طعاماً، وكان كذلك. ورأى الرب كل ما عمله فإذا هو حسن جداً وكان مساء وكان صباح يوماً سادساً.
الاصحاح الثاني: فأكملت السماوات والأرض وكل جندها. وفرغ الرب في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الرب اليوم السابع وقدسه لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الرب خالقاً. هذه مبادئ السماوات والأرض حين خلقت، يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات ، كل شجر البرية ولم يكن بعد في الأرض وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الرب الإله، لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان انسان ليعمل على الأرض، ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض. وجبل الرب آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة فصار آدم نفساً حياً. وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً ووضع هناك آدم الذي جبله. وانبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر. وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس. اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب. وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع. واسم النهر الثاني جيحون وهو المحيط بجميع أرض كوش. واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي آشور، والنهر الرابع الفرات. وأخذ الرب الآلهة آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها.
ث- تناقضات النص:
يظهر النص التوراتي تناقداً بارزاً في عرض الأحداث. ففي البدء يخلق الرب السماوات والأرض. ثم نجده يخلقهما مرة ثانية بفصل المياه من بعضها. ومرة نجده يخلق البشر دفعة واحدة وفي المرة الثانية يخلقهم بدءاً من زوجين، ذكراً وانثى.
يعود هذا التناقض في النص إلى امتزاج قصتين للخلق. الأولى تظهر باسم يهوه والثانية باسم ايلوهيم. ويعتقد العلماء بأن القصة الخاصة بيهوه كتبت في يهوذا والقصة الخاصة بايلوهيم كتبت في افرايم. وإن هذه وتلك قد امتزجتا بقصة واحدة بعد سقوط السامرة.
وإذا حللنا رواية التكوين استطعنا تمييز الروايتين وفق العرض التالي:
- النص اليهودي:
1- الحالة الأولى للكون، عماء مائي.
2- يعزى الخلق إلى يهوى الذي قام به في ستة أيام منفصلة، في كل يوم عمل.
3- تتسلسل مراحل الخلق وفق التالي:
- النور
- السماء
- اليابسة
- الزرع
- الأجرام السماوية
- الأسماك والطيور
- الحيوانات والبشر رجالاً ونساء.
- النص الالوهيمي:
1- الحالة الأولى للكون خفر وخراب لا حياة فيه ولا زرع ولا ماء.
2- يعزى الخلق إلى ايلوهيم، دون أن تقسيم زمني.
3- تتسلسل مراحل الخلق وفق التالي
- الإنسان، آدم من التراب
- جنة في شرق عدن
- الأشجار من كل نوع بما فيها شجرة المعرفة
- الحيوانات والوحوش والطيور (لا ذكر للأسماك)
- المرأة تخلق من رجل.
كان يعدّ سفر التكوين التوراتي نصاً أصيلاً من ابتداع اليهود وعبقريتهم. ولكن يعد الكشف عن آثار مكتبة آشور بانيبال منذ نهاية القرن التاسع عشر
تابع: أسطورة الخلق التوارتية
أجمع معظم الباحثون في الأساطير السورية والتوراة بعد اطلاعهم على كنوز الحضارة السورية التي بدأت تظهر للنور في أواخر القرن التاسع عشر، على عدم فرادة معظم النصوص التوراتية ونكران حصرية إبداعية اليهود لها.
"هذه النصوص الميثولوحية (التكوين، الطوفان… في التوراة) منقولة عن ميثولوجية بابل وكنعان بالنص الحرفي أو منقولة جزئياً أو محورة بشكل يتفق والمفاهيم اليهودية. وإن مؤرخي التوراة لم يكتفوا "بابتداء مروياتهم بالجد الأكبر للشعب العبراني فتوسعوا في قصة الإنسان ولخصوها مبتدئين بالخليقة، وأخذوا في ذلك موادهم من مصادر بابلية ، وقصارى القول، إن كتاب التوراة، وهو المأثرة الثقافية الوحيدة للشعب اليهودي، قد نشأ وتطور انطلاقاً من أرضية ثقافية سورية وبابلية ومصرية. وإن مسيرة الفكر العبراني في سعيه لبناء ديانة مستقلة، لم تتكلل بالنجاح إلا عن طريق استيعاب وتمثل الديانات السابقة، والآلهة القوية التي لم يستطع يهوه زحزحتها إلا باستعارتها لنفسه"
لعلّ من أبرز وجوه التشابه بين الأساطير السورية والأساطير المذكورة في التوراة تظهر جلياً بين أسطورة الخلق البابلية "الاينوما ايليش" وأسطورة الخلق التوراتية في شفر التكوين.
سوف نحاول الآن عرض نقاط التشابه بين الأسطورتين:
1- تقسيم الخلق على سبع مراحل :
تتقسم مراحل الخلق في الاينوما ايليش على سبع ألواح متتالية بينما نرى يهوه يخلق الكون على سبعة أيام . وذلك على الشكل التالي:
ألواح التكوين السبع أيام التكوين السبع
(الاينوما ايليش) (سفر التكوين)
1- العماء الأول، تعامة الماء المالح 1- الظلام يغلف المياه
وزوجها الماء الحلو. يحيط بهما الظلام وروح الرب يرف فوق المياه
2- النور يشع ويتولد من الآلهة 2- خلق النور
3- خلق السماء 3- خلق السماء
4- خلق الأرض 4- خلق الأرض
5- خلق الأجرام السماوية 5- خلق الأجرام السماوية
6- خلق الإنسان 6- خلق الإنسان
7- مردوخ ينتهي من الخلق 7- يهوه يستريح
والآلهة تحتفل به
2- طبيعة المبدأ الأول:
المبدأ الأول في كلا النصين هو المياه التي منها يتم كل عمليات الخلق.
1-عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، 1- وكانت الأرض خربة خالية
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض [COLOR="rgb(0, 100, 0)"]وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الرب
لم يكن من الآلهة سوى آبسو أبوهم فوق وجه المياه
وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعاً.
يمزجون أمواهم معاً.
3- الضوء قبل النجوم والأجرام السماوية المشعة:
تتحدث الاينوما ايليش عن وجود الأيام والليالي منذ عهد آبسو، كما أن مردوخ نفسه كان يشع بالنور. في المقابل يذكر الفصل الأول من سفر التكوين أن الرب خلق النور ليميز الليل من النهار قبل أن يخلق الأجرام المنيرة والنجوم والكواكب.
وفتح آبسو فمه قائلاَ لنعمامة بصوت مرتفع وقال الرب ليكون نور فكان نور
"لقد غدا سلوكهم مؤلماً لي في النهار لا أستطع ورأى الرب النور أنه حسن، وفصل
الراحة وفي الليل لا يحلو لي الرقاد[…] الرب بين النور والظلمة ودعا الرب
(عن مردوخ) مثله كنور عشرة آلهة معاً النور نهاراً والظلمة ليلاً.
4- خلق السماء:
يتفق النصان على أن السماء كانت نتيجة فصل المياه الأولى إلى قسمين. ففي النص البابلي يشطر مردوخ تعامة شطرين ويرفع أحدهما سماء، وفي النص التوراتي يفصل يهوه بين المياه التي تحت الجلد والتي فوقه سماء.
شقها نصفين (أي تعامة) فانفتحت كما الصدفة وفصل بين المياه التي تحت الجلد
رفع نصفها الأول وشكل منه السماء سقفاً. والمياه التي فوق الجلد، وكان ذلك.
ودعا الرب الجلد سماء.
5- خلق الأرض:
بعد أن فصل مردوخ تعامة وجعل من نصفها العلوي سماء يضع حراساً وعوارض لكي يمنع المياه العلوية من أن تتسرب وبفعل ذلك يتسنى لإبسو خلق الأرض. كما نرى يهوه يأمر بتجمع المياه في مكان واحد لتظهر اليابسة.
رفع نصفها الأول وشكل منه السماء سقفاً. وقال الرب لتتجمع المياه تحت
وضع تحته العوارض وأقام الحرس أمرهم السماء إلى مكان واحد، ولتظهر
بحراسة مائه فلا يتسرب […] اليابسة، ودعا الرب اليابسة
قاس الرب أبعاد الإبسو وأقام لنفسه نظيراً
أرضاً.له أسماه عيشارا (أي الأرض)
6- خلق الأجرام المنيرة:
بعد خلق السماء والأرض نرى يهوه كما مردوخ يخلقان الأجرام المضيئة وينظمان الزمان، النهار، والليل (…)
]أوجد لكل (من الآلهة مثيله من النجوم وقال الرب لتكن أنوار في جلد
]ثم أخرج القمر فسطع بنوره وأوكله الليل السماء لتنير على الأرض، وكان
كذلك. فعمل الرب النورين العظيمين
بعد أن أوكل بالأيام شمش (الشمس) وفصل النور الأكبر لحكم النهار والنور
بين تخوم النهار وتخوم الليل. الأصغر لحكم الليل. والنجوم وجعلها
في جلد السماء لتنير على الأرض.
7- خلق الحيوانات والنبات:
بسبب الضرر الذي لحق بألواح الاينوما ايليش يعتقد العلماء بأن السطور التي تذكر خلق الحيوانات والنبات مذكورة ضمن الأجزاء المفقودة من اللوح الخامس. أما النص التوراتي فيتحدث عن خلق حيوانات في اليوم الخامس بينما نبات الأرض فلم يظهر إلا بظهور الإنسان.
8- خلق الإنسان:
يخلق الإنسان في الروايتين في المرحلة الأخيرة من الخلق. كما تتفق الروايتين على أهمية هذا العمل وعلى ألوهية الإنسان المخلوق.
سأخلق دماء وعظاماً (من دماء إله اسمه كينغو) فخلق الرب الإنسان على صورته
منها سأشكل "لالو" ويكون اسمه الإنسان […] على صورة الرب خلقه.
بعد أن قام أيا بخلق البشر […]
ذلك الفعل الذي يسمو عن الافهام.
9- الاستراحة بعد اتمام الخلق:
بعد أن أنهى مردوخ الخلق كما يهوه تظهر الأسطورتين حالة الطمأنينة والراحة عند كليهما.
وبعد أن أنهى كل تنظيم وقسم لكل من الآلهة وفرغ الرب في اليوم السابع من
نصيبه فتح الانوناكي فمهم وقالوا لسيدهم عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم
مردوخ: "[…] سنبني لك هيكلاً مكاناً به السابع من جميع عمله الذي عمل.
نركن مساءً لنستريح […]".
نتساءل مذهولين بعد تفحص تلك وجوه التشابه بين أسطورة الخلق البابلية وأسطورة الخلق التوراتية عن أسباب هذه التشابهات. صحيح، ومما لا شك فيه، أن الهلال الخصيب كان الاطار الذي نضجت فيه تأملات الإنسان البدئية وتصوراته الدينية وأساطيره. لكن الشعب اليهودي لم يكن يوماً واحداً من هذه الشعوب المبدعة التي تفاعلت على أرض الخصب- سورية. يعود تاريخ تدوين الملحمة البابلية إلى تاريخ قديم، حدده دارسوها بحوالي 1800 سنة قبل الميلاد، أي قبل ولادة موسى بأربعة قرون. ولا شك أن أصولها ترجع إلى مصادر موغلة في القدم. أمّا التوراة العبرانية فقد دوّنت أقدم أسفارها وهي أسفار موسى الخمسة بعد العودة من الأسر البابلي في القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد. ولم يقر النص النهائي للتوراة إلا في القرن الأول قبل الميلاد. فمن ناحية الأسبقية التاريخية نرى أن الاينوما ايليش أوغل في الزمن من أسطورة الخلق التوراتية .
من ناحية أخرى، لا بد من الإشارة إلا أن اليهود قد سبوا مرتين إلى بابل. وقد قدم السبي لليهود فرصة للاضطلاع على آداب وديانات وأساطير ثقافة البابليين. ومن المعروف بأن المنتصر هو الذي ينشر ثقافته وليس العكس. كما أن اللغة البابلية قد شاعت في المنطقة وانتشرت غرباً حتى الساحل السوري، وشمالاً حتى آسيا الصغرى، وذلك منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. ولا يمكن انتشار لغة من دون آدابها. وقد يكون هذا سبباً آخر لاضطلاع اليهود على الأساطير البابلية.
ليبدع شعب من الشعوب في أي مجال من المجالات لا بد له وأن يكون قد مر بأول الظروف المدينية الا وهي الاستقرار. كان اليهود رحلاً حيناً وعبيداً أحياناً. فكيف لشعب بدوي استعبدته الأمم العظيمة (سورية- الفراعنة) أن يصبح فجأة كاتب أعظم مآثر بشرية؟
خلاصة القول، إن أسطورة الخلق التوراتية لا يمكن اعتبارها قطعاً إبداعاً يهودياً صرفاً، كما أن اليهود لم يتركوا الأسطورة البابلية بعدها العالمي الذي تميزت به بل جعلوا منها معتقدات قبلية ضيقة لأنانية في نفوسهم تعشق الخلود على الأوراق واغتصاب الأراضي والعقول.
المصدر : منتديات مجالس الوفاء ::{}{ المجالس العامه }{}::مجلس التاريخ والتراث